بسم الله
رجل الظل
أنا رجل يخاف ظله, ويكره النور, يكره النور ويحاول قدر استطاعته تجنبه, فأنا أخشى أن يعرف أحدهم ذلك, رجل ظله حصان.. ذلك هو أنا, الوحيد الذي لا يشبهه ظله.. دائما ما أفكر حين حضور وليمة: (ماذا لو أقف الآن في وسط هذا المجلس, فنظر أحدهم للجدار الذي سيقف على طرفه ظلي, ماذا ستكون ردة الفعل؟)..
كنت كل يوم أستيقظ فيه أنظر أولا له, متمنيا أن يعود ظلي لطبيعته, متمنيا لو كان ظلا لفأره, أو ظلا لدودة, صغير الحجم, لا يلاحظه أحد, أو حتى لو كنت بلا ظل.
أذكر أول مرة حينما اكتشفت ذلك, وكان حينها عمري تسع سنوات, أتسابق مع رفقتي, عندها أخذت منحنيا من الطريق الضيق الذي يضيئه مصباح وحيد, فالتفت للجدار الذي يركض عليه حصان أسود محاذ لي بشكل متواز.. فتلفت حولي أبحث عن حصان أبكم الحوافر.. أصابني الفزع, ووقفت مذهولا وحدي, والخطوات العاديات من الرفقة تتعداني, كنت وقتها أفكر بذلك الشيطان الذي نجح بإخافتي, وذهبت أحكي لأصدقائي المحتفلين بالنصر علي, عن ذلك الحصان الذي وقف ينظر إلي.. ليبدأ بعدها هاجسي بمراقبته, فقد أدركت أنه عار سيظل ملتصقا بي.. الوحيدة التي تفهمت ذلك هي أمي رحمها الله, وحينها هدأت من روعي- رغم قلقها من تلك البقع الحمراء, التي بدأت تظهر على جلدي من ذلك الحين, وتتنقل في مختلف أنحاءه-.. نظرت إلي مبتسمة, وأخبرتني بأن ظلها كان مختلفا أيضا, وأنه كان غزالا, واختفى حينما كبُرَت.. ولكني كبرْت, كبرتُ, ولم يختفِ.. أصبح خوفي يزداد, وخصوصا من تلك الأمكنة التي تكثر فيها المصابيح كالملاعب والأعراس, أتخيل نفسي, وأنا تحت مجموعة من الأنوار, وأربع أحصنة حولي, إنه كابوس مخيف..
ذلك سبب عزوفي عن الزواج, فمن تلك التي ستقبل برجل ظله كظلي, بذلك الذي سيبدو في ليلة كتابة عقدها حصانا تُلبسه خاتم زوجها, بالتأكيد سيهز صراخها الأرجاء, قبل أن يصمت للأبد.
أتذكر آخر يوم كنت قريبا فيه من الناس.. كنت وقتها أتناول العشاء في مطعم صغير بعيدا عن بيتي, وحينها لاحظ النادل ظلي, ظل حصان يلتهم همبرقر, وذلك ما سبب فزعا للجميع, وبالتحديد النساء والأطفال الذين خرجوا جماعات مزدحمة من الباب.. لا أعرف لماذا!, لقد كان مجرد ظل!!!.
مازلت أرى ذلك الحلم, على فترات متعددة, ذلك الذي أرى فيه حصانا أبيض حزين, له ظلي, المكان سيرك كبير, والجمهور المندهش يضحك عليه, وهو يأكل من تبن, شعرت أن الجمهور يضحك علي, وأن ضربات السوط كانت تؤذيني, وتؤلمني أنا.
هناك مكانان فكرت فيهما كثيرا, أولهما البحر, ففي الماء تختفي الظلال, ولكن للأسف, كدت أغرق, فما أعدت الكرة, والمكان الآخر الذي ذهبت إليه مزرعة ابن خالتي, حيث لديه قطيع من الخيول, شعرت أني طبيعي هناك, ولعل وعسى يضيع ويتوه ظلي مع تلك الظلال التي تشبهه, الذي استغربته هو الشعور المتقارب المتبادل بيني وبين تلك الخيول. شعرت بأني خيال محترف حينما ركبت أحدها, ولكن تلك السعادة اختفت حينما نظرت للأرض وللحصان الذي يمتطي حصانا, كان موقفا مضحكا يدعو للبكاء.
لقد كرهت الخيول بسبب ذلك.
لكني أشعر اليوم بشيء مختلف, بتحسن وخفة بعد مرور أمراض الشيخوخة.. اشتقت لرؤية حصاني, قد لا تصدقون أن ظل الحصان رغم مرور تلك السنين ما زال يرافقني كصديق مخلص, أحسست برغبة في الركض وتحمست لممارسة الجري في هذا المساء, وظلي المميز الطويل مائل أمامي, يبدو جميلا, وحميمي, كنت عند جسر العبور فوق النهر الصغير حينما توقفت قليلا.. مشيت على الجسر فتوقفت مرة أخرى, ولكن الذي أرعبني أن ظلي لم يتوقف, ورفع قامتيه عاليا, ثم اندفع بعدها يعدو منطلقا كطائر محلق, حتى نهاية نظري, وكانت تلك آخر مرة أراه فيها.