1 - لماذا أحب وطني .؟!
تراودني أفكار كثيرة هي بمثابة خيوط رواية ذاتية إن صح التعبير ، قد تنطبق على معظم الفلسطينيين في تفاصيلها الصغيرة ، وعلى معظم العرب بالتفاصيل العامة ..
أنا أعلم علم اليقين، ما يعنيه الوطن لكل إنسان ، وفي أي مكان من العالم ،
وكيف يتشكل في الوجدان ، حتى يصبح الذاكرة والشاغل في آن واحد ..
أقول : الوطن هو سنوات عشرة من الطفولة !..
السنوات التي نعي فيها الأمكنة والشوارع والمشاغبات ، وبدايات المراهقة ،وإرهاصات صناعة الرجل أو المرأة في نفس الطفل أو الطفلة .. السنوات التي يترعرع فيها الإنسان مع كل ما حوله : أهله ، أصحابه ، مدرسته ، شارعه ، الشجرة التي يمر بجوارها ، قلم الرصاص الذي يكتب به حتى آخر السنة الدراسية ، وحتى تلامس المبراة الأصابع..!
ذلك الوطن ، الكائن الحي كالنعناع أو القطة الصغيرة ، ينمو معنا بالتفاصيل القديمة ، وينتقل معنا أيضاً :
مع التلميذ على مقاعد المدرسة ،
مع الراعي الذي يهش على أغنامه ،
مع الفلاح عند سنابل الفجر الذهبية ،
في البيارات مع قاطفي البرتقال ،
مع تفتح كل المخلوقات التي تصحو موحدة عابدة الخالق المبدع ..
الوطن ، ذلك الماكث المسافر معنا / المهاجر المقيم معنا / الهادئ المشاغب معنا ..
هو الوطن المناسبة / العيد والجمهور ..
هو نزق الطفولة وحكايات الكبار عند الثلث الأول من الليل ..
من ذلك الوطن ، شربت ، وما زلت ، ماء المحبة الحقيقية للأشياء والناس ..
وكم كنتُ وما زلتُ أمقت الذين يكرهون ويسبون أوطانهم ..
(أقول دائماً : عليكم بالوطن وليس بعض القائمين عليه الذين قد لا يعجبونكم ، فالوطن باق وهم الزائلون).
من ذلك الوطن ، فهمت معنى انبلاج شجرة اللوز عن أبيضها الناصع ..
وشجرة الليمون عن عطرها ..
وشجرة الزيتون عن دمعها واحتراقها ..
والدروب عن شرايينها الموصلة للبيوت البسيطة ، بطينها ووجوه أهلها ..
من ذلك الوطن ، تأسست في جوانيتي معرفة الله ..
ومن الوطن غرفت المعاني الحاضرة ، حتى وإن كان غائباً إلى حين ..
الوطن ،هو المصداقية ، والمؤاخاة .. وصانع المجد ..
الوطن الجميل هو صانع القيادات والانقلابات والرموز والعداوات والأعداء ، والمصالحات..!
كم هو مدهش هذا الوطن ..
حين نرحل ، ( يتشعبط ) على أكتافنا ويسكن أجسادنا..!
وحين نحلُ ، ينام في قلوبنا ، وقد يصيبنا بجلطة مفاجئة حين نتقلب فجأة .. أو حين نعجز عن تنفسه بالدرجة المطلوبة..!
ذلك الوطن ، قد يسعد المرء كثيراً ، وقد يشقيه أكثر..
.. لذلك تكون الكرامة والعزة بحماية الوطن والذود عنه حتى الاستشهاد ..
وتكون المذلة والهوان بالتخلي عنه وبيعه بمصلحة ذاتية فردية / أنانية..!
لذلك ، نستطيع فرز الناس إلى نوعين /المخلصين الوطنيين والخونة..!
ولذلك أقول : أنا والوطن من خلق الله المبدع ، الذي آلف بيني وبين التراب .. والماء والهواء والكون ..
من معجزة الوطن ، أن الذين يموتون في المنافي ، يقولون :
رُدّوني إلى وطني..!
هل نتحدث عن رواية أم عن حقائق أم عن فلسفة معينة ..؟!
لا أعرف بالضبط كيف أفصل هذه الأمور عن بعضها البعض ..
فقد يعجب الكثيرون بهذا السرد ،أو هذه التركيبة البسيطة ، لكن في قرارة نفسي أتمنى أن تتسلل بعض هذه المشاعر إلى الذين يحبون أوطانهم ، وإلى الذين ما زالوا لا يفهمون تلك الأوطان ، ليس من باب الإرشاد والتوجيه والنصح ، لكن لتعميم الفائدة الحقيقية التي قد يجنيها المرء من تلاحمه بوطنه .. فهو قد يمنحك العنفوان .. والصحة..!
قد يسعد كثيرون من هذه التعابير ، لكن في لحظة ما ، وفي مكان ما ، نرى البعض ينكر موطنه باعتبار أن ذلك يجلب إليه من الصفات ما لا يريد ، هنا يكون لا شيء/ لا هو ولا وطنه ..!!
ذلك الوطن ، كان زوادتي في الترحال ،
والصورة التي لا تفارقني ،
ما عرفت في وقت مبكر كيف أرسمه وأشرحه وأحكي عنه بالشكل الذي أردته في مرحلة لاحقة ..
لذلك أتمنى أن أفعل ..
..
2 - لماذا أحب وطنك.؟!
..
.
ذات نهار ربيعي ،
حدثني قلبي أنه يملك أربع حجرات ..
في حجرة صورُ الأمكنة ، وفي الثانية سلسلة ُ الوقت ،
وفي الثالثة الأوطان ..
وفي الرابعة أنا والناس ..!!
ربما ، بعد ذلك أحببت المربع ،
وصرت أخشى الدائرة والزوايا الحادة ..
لأن الدائرة تعيدني إلى صفري ، والحادة تجرحني ..!
ورحت أحصي المدائن التي في غرفة الأوطان .
فرأيتُ بعضهن على السيرة الرباعية ، تسبقني إليها نبضاتي قبل خطواتي ..
..
بين دمشق وحمص ، يسرقنا الربيع وهامات السرو الذاهبة إلى الشرق ، آذنة ً للريح بالمرور ..
وبين اللاذقية وحلب ، تدهشنا الغابات القديمة ، حين تفتح عباءات التاريخ ورائحة الصنوبر ..
فتكون سوريا شاخصة للعيان بجبالها وسهولها وباديتها..
..
بين بغداد والبصرة ، رائحة الجنوب وشواء الطين والسكة التي تصب عند الحسن البصري ، فنأخذ استراحة عند أبي النواس ، نتذوق الحكايات والسمك، ويسلينا ضجيج محطة القطار ، وفم الخليج الذي تتوالد منه الزوارق..!
وبين كركوك والموصل ، التباس الصبايا والليل الغامر على ظهورهن ، كلما ارتجفت الريح سكنْ .. وكأن صلاح الدين ما مرّ من هنا ..!!
هذا العراق الذي يخرج من رماده ثانية ، وثالثة وعاشرة ..
..
بين صنعاء وتعز ، كانت خناجر سوق الملح والقات على الأرصفة قبل أن يتدلى على أكتاف الرجال من الجبال أو من قمة صبر المعانق للغيوم ، والوقت الذي لا يهم عند المقيل ..!!
وبين الحديدة وعدن ، كان ما صنع الحداد قبل أن ينهض ( با وحدة ) معلنا وحدته ، وتمنيت الرقيق الحالم الحمدي أن يشهدها . لأنها كانت الحلم ..
أهو اليمن السعيد ..
أما زال ..؟!
..
بين عمان وإربد ، تلك التلال العاليات ، والأشجار الشامخات بالبلوط وبقايا تاريخ دارس يتكئ على حجارته عند جرش ..
وبين الكرك والعقبة ، تبتلع الأودية الظلال وتحيلها ليلاً عند الظهيرة .. فتطلب الاسترخاء والنوم قرب زير الماء الذي ينزّ برودة وعبقا .. فأقف ، كأنه حلم عند الجبال السود المشرفة على عنق الماء ..!
ذاك الأردن بمسمى نهره ، وفيه يزهر الملح على حواف ميت البحر ..!
أربعة بلدان ، مربعة العواصم ..
..
وبين المخيم والمخيم ، التفاصيل ذاتها ..
وبين المخيم والمخيم ، الزنقات ذاتها ..
وبين المخيم والمخيم ، الناس ذاتهم ..
وبين المخيم والمخيم .. المأساة باقية على حالها ..!
لذلك ، أسمها فلسطين ..!!
ولذلك ،
أحببت الجهات الأربع .
وأشعر أنني جزءٌ من زواياها الأربع ،
لأنها تحكي حجرات القلب الأربع ..
وهمومنا الموزعة في اتجاهات أربعة ..!
ومخيماتنا التي لها أربع زوايا :
زاوية الصبر ،
وزاوية القهر ،
وزاوية المقاومة ، وزاوية الأمل ..
ولذلك أيضاً ، أحببت أوطاني كلها ..
وأدرت للبعض خدي الأيسر بعد الأيمن ألف مرة..
لأنني ، يقولون ، يجب أن أكون قربان الثورات ، والتخلف ، والهزائم ، والانتصارات..!
ورغم ذلك ، أغضب حين أرى وطني تحز فيه سكينٌ مثلومة ، بيد ٍ مرتجفة ..
وأغضب ، حين أرانا في آخر ما يقرب المنظار من رؤية ..
وأول من يصيبنا الرصاص ..!!
آخر من يتمتع بالحياة ،
وأول من يدفع الثمن ..!!
..
لذلك ،
ليعذرني البعض ، حين أحب أوطان العرب ، كأنها وطني ..
فأنا أحب المربع
بزواياه القائمة تماماً ،
لأنني أحب قلبي ..!!
..