هذه قصة حدثني بها إمام مسجد أعرفه يقول: شاب في مقتبل العمر.. يطمح إلى ما يطمح إليه كثير من أبناء المسلمين المغرّر بهم، الذي سُلِبوا حلاوة الإيمان ومحبة الرحمن والشوق للجنان.. فاستبدلوا الذي أدنى بالذي هو خير.. فآثروا العصيان واستمرءوا الطغيان وزينت لهم الفواحش فقارفوها.. وتزخرفت لهم الدنيا الدنيَّة الغادرة فعانقوها وعشقوها حتى عبدوها عياذا بالله من هذا.
شاب لم يتجاوز العشرين من عمره، كان من أهل الصلاة إذا سمع الأذان جاء يسعى إلى المسجد ويجلس مجالس الذكر.. لكن..
التفَّ عليه أصحاب السوء ورفقاء الضلال.. ممن لا يشهدون جُمَع ولا جماعات.. فأنكروا عليه صلاته، واستهزؤوا به لتضييعه لأوقاته، فزيَّنوا له التأخر عن الصلاة والجلوس في الطرقات حتى تمكنوا منه ولم يبق له أثر في المسجد..
فقد تمكن أولئك الأصحاب من سحبه من النور إلى الظلمات، فبعد أن كان من أهل المسجد أصبح مكانه قارعة الطريق وظل الحيطان، وهذه حاله حتى والناس يصلون، فكنت أمرُّ عليه وأسلِّم عليه وأدعوه إلى المسجد وإلى الصلاة فيضاحكني ويقول سأتوضأ وأتبعك، لكنه لا يأتي..
وهكذا كلما مررت به دعوته إلى الصلاة وإلى مجالس الذكر في بيت الله سبحانه، لكن هذا الفتى بقي على حاله يعدني أن يأتي لكن لا أراه، فكنت أفكر في هذا الشاب كثيراً وأقول ماذا سيكون حال هذا الشاب غداً إذا بقي على حاله هذه ؟
سيكون والله وبالاً على أمة محمد، إذا بقي على حالته هذه سيكون شراً على الإسلام وبلاء على المسلمين، وأما أنا فكنت أقول اليوم سأذهب إليه، انصحه عن حالته هذه وأذكِّره بأنه كان من أهل الصلاة، ولا أنكر أنه كان طيب الخلق، وكل يوم أقول غداً والشيطان يثبطني ويمنيني..
فمرت الأيام والليالي، وإذا بخبرٍ ينزل عليّ كالصاعقة، خبر هدَّ أركاني وأثار أحزاني، هذا الشاب الصغير، ذلك الفتى الذي لم يتجاوز العشرين ذلك الشاب الذي كنت أخاف منه إذا كبر ماذا سيفعل وماذا سيكون..
ذلك الشاب الذي كان ينظر إلى مستقبلٍ واعد ينتظره.. ذلك الشاب الذي تخلف عن الصلاة وهجرها.. ذلك الشاب الذي كنت عازماً على نصحه وإرشاده.. لكن الشيطان أخَّرني حتى حصل ما لم يكن في الحسبان..
لقد مات ذلك الفتى.. نعم.. لقد مات ذلك الشاب الصغير.. يالله أمات حقاً.. إنه شاب صغير.. إنه ما زال في مقتبل عمره.. إنه.. إنه.. إنه..
لقد دارت بي الأفكار ومارت بي الأرض لما جاءني ذلك الخبر.. والله الذي لا إله إلا هو إني لم أصدِّق ذلك الخبر.. فانطلقت إلى مجلسه المعتاد الذي يجلس فيه على قارعة الطريق.. علِّي أجده فأنصحه..
لكني عندما وصلت إلى ذلك المكان وجدت المجلس ولم أجد صاحبه.. لقد وجدت تلك الأحجار التي يجلس عليه لكنها أحجار فقط.. لقد نظرت إلى تلك الأحجار والدموع تسيل على خدي وأنا أتأمل تلك الأحجار التي والله كأنها تكلمني وتقول لي:
ويلك ماذا تقول لله غداً.. ماذا تقول لله عندما يسألك عن هذا الفتى الذي مات وانقطع عن الدنيا.. لِما لم تنصحه وتوجهه.. ألم تستطع أن تعطيه شريطا.. ألم تستطع أن تعطيه كتيبا أو مطويةً.. ألم تستطع أن تناصحه بينك وبينه..
لقد غرَبت شمس ذلك اليوم وما كنت أتصور أن على وجه الأرض أخيب مني لِما قد بدَر منّي.. يالله مات الشاب.. مات الفتى.. نعم.. لقد اختطفه ملك الموت دون سابق إنذار ودون تنبيه أو تذكار ( بل تأتيهم بغتة )..
إن ذلك الفتى أرَّقتني صورته وهو يظهر أمامي لأسابيع متكررة وصورته تنظر إليَّ.. لماذا سكت لما مررت بجانبي.. لماذا لم تتوقف وتتكلم معي، هل تكاسلت عن قول الحق أم جبنت..
لقد شعرت بالذنب والخطيئة بسبب هذا الفتى.. ولكني أسأل الله أن يغفر لي ذنبي.. ولله عليّ أن أكفر عن خطيئتي بأن أعمل لله ليل نهار في دعوة كل من ضل عن الهدى.. لكن والله لو دعوت من على الأرض جميعاً.. واستجابوا لي.. واهتدوا على يدي بإذن ربهم، والله لن أنسى ذلك الفتى أبدا ما حييت، ولن أنسى تقصيري معه أبدا..